الوحدة المفقودة- نقد الذات سبيلنا للتحالف بين الشعوب

المؤلف: كمال أوزتورك08.23.2025
الوحدة المفقودة- نقد الذات سبيلنا للتحالف بين الشعوب

جذوري ضاربة في أعماق هذه الأرض، فأبي تركي، هاجر من القوقاز ليستقر في ربوع تركيا الشرقية، وأمي من صلب قبيلة كردية عريقة تسكن تلك البقاع. لقد أشرقت حياتي من زواج مبارك جمع بين عرقين أصيلين، التركي والكردي.

وإذا ما أمعنت النظر في جنوب تركيا، فسوف تدهشك كثرة الزيجات التي تجمع بين العرب والأتراك، تجسيدًا للتآخي والاندماج. وإذا انتقلت شمالًا، فستجد صورًا مماثلة من التزاوج بين الأتراك والجورجيين أو اللاز، وفي الغرب تتجلى الروابط بين الأتراك والبوشناق أو الألبان، لترى بانوراما من الوجوه المتنوعة، كل وجه يحكي قصة مصاهرة فريدة.

ليست هذه القصص حكرًا على تركيا، بل هي واقع معاش في العراق، وإيران، وسوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، ومصر. هذه الأرض الطيبة، هي بوتقة انصهرت فيها دماء الشعوب وأنسابها عبر معابر التاريخ الطويل. وكلما تعمقنا في دراسة خريطتنا الجينية، تكشف لنا النقاب عن آثار عشرات الأجناس والأعراق التي امتزجت وتفاعلت.

حتى أسماء أطفالنا تعكس هذا التمازج الجميل، فالكرد والترك والفرس والعرب يتشاركون في تسمية أبنائهم بأسماء تعبر عن هذه الوحدة الثقافية. فاسم ابني "تركي"، تيمنًا بأصول والده، واسم إحدى بناتي "فارسي"، تزهو بعبق الحضارة الفارسية، والأخرى تحمل اسمًا عربيًا أصيلًا.

أما أغانينا، فهي خير دليل على هذا التقارب الوجداني، ففي تركيا يصدح فنانون كثر بأغاني فيروز وأم كلثوم وشِفان برور، تعبيرًا عن حبهم وتقديرهم لهذه الأصوات الخالدة. ولا أظن أن هناك كرديًا أو عربيًا لا يعرف أغاني إبراهيم تاتليسس، النجم الذي أسر القلوب بصوته العذب.

إن ما أود التأكيد عليه هو أن هذه الجغرافيا، بكل ما تحمله من تنوع واختلاف، تمثل ملتقى لشعوب تداخلت وتمازجت كتمازج اللحم بالعظم، يصعب الفصل بينها. وأرى أن ما نشهده من خلافات ونزاعات ما هو إلا دخيل طرأ علينا في المئة والخمسين سنة الأخيرة.

فمنذ أن أطمعت الدول الأجنبية بأرضنا وخيراتنا، لم نذق طعم الاستقرار والهدوء. عمدوا إلى تغيير الحقائق في كتب التاريخ، وحشوها بالإساءات والافتراءات على شعوب كنا بالأمس القريب إخوة متحابين، ثم قاموا بتلقين هذه الأكاذيب لنا، وورثناها بدورنا لأطفالنا.

إن أغلب هذه المعلومات المغلوطة قد تسربت إلى عقولنا بفعل المؤامرات الخبيثة للدول الاستعمارية التي سعت جاهدة لزرع الفتنة والشقاق بين العرب والأتراك، وبين الأتراك والأكراد، حتى تحولنا إلى أعداء لدودين. وأصبح كل منا يتغنى بعظمة عرقه، ويتباهى بتفوقه على الآخرين، يا لها من قصة محزنة ومخجلة تبعث على الأسى!

ولكن ما يزيد الطين بلة، أننا جميعًا نؤمن بدين نبي كريم، قال قولته المشهورة: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، ونعتز بالانتماء إلى أمته السمحة. فماذا عساه يقول لنا النبي محمد ﷺ لو جلسنا أمامه وأخذنا نتباهى بعظمة أعراقنا وتفوقها الزائف؟

جميعنا، من حيث المبدأ، نؤمن بمفهوم "الأمة" الواحدة، ولا أظن أن أحدًا يعارض ما أسطره هنا من كلمات صادقة. بل إنني لمست في العرب والكرد والفرس الذين التقيت بهم في البلدان المختلفة تأييدًا جمًا لهذه الأفكار النبيلة، وإقبالًا كبيرًا على قراءة الآيات والأحاديث التي تحث على أخوة المسلمين وتراحمهم.

ولكن، سرعان ما نعود إلى مربع الخلافات والاتهامات المتبادلة، فيتهم كل منا الآخر بأنه هو من تسبب في إفساد هذه الأخوة الصادقة، وكأن أحدًا منا لا يرى في نفسه أي تقصير أو خطأ. وإن كان الأمر كذلك، فلماذا نعجز عن بناء تحالفات قوية ومتينة تصون وحدتنا وتحمي مصالحنا المشتركة؟

لقد بات أغلب المسلمين اليوم يعتقدون أن وحدة الأمة والعيش المشترك وأخوة الإسلام ما هي إلا ضرب من الخيال الرومانسي، فيغلقون على أنفسهم الأبواب، ويرسمون الحدود بقلم عريض، وينهمكون في تمجيد الدول القومية الضيقة.

لقد بلغ بنا التعصب القومي حدًا مقيتًا، حتى صرنا نشاهد كل قومية تتنازع مع الأخرى لتحديد من هو "أصل العرب" الأصيل، ومن هو "أصدق الكرد" في انتمائه، ومن هو "الأتقى بين الأتراك" في تدينه. وهكذا، يأكل التعصب العرقي نفسه في النهاية، ويقضي على كل أمل في الوحدة والتقدم.

نحن في تركيا هذه الأيام نتباحث في هذا الموضوع بكثرة، وذلك لأن الرئيس رجب طيب أردوغان ألقى مؤخرًا خطابًا هامًا تناول فيه قضية تحالف العرب والأتراك والأكراد، وقال فيه كلمات مؤثرة:

"حين يتحالف الأتراك والأكراد والعرب، تهب نسمات منعشة من بحر الصين إلى شواطئ الأدرياتيكي على صهيل خيولهم. التركي والكردي والعربي، إذا ما اجتمعوا وتوحدوا وتآلفوا وتعانقوا، فها هنا يكمن العربي الأصيل، والكردي الشهم، والتركي المقدام.

أما حين يتفرقون ويختلفون ويتباعدون، فالهزيمة والخيبة والحزن سيكون مصيرهم المحتوم. لقد دمرت جيوش المغول أراضي المسلمين في غفلة من الزمن، لأن العربي والكردي والتركي كانوا متشتتين متفرقين. وهاجم الصليبيون ديار الإسلام، لأن أواصر الأخوة بين هذه الأقوام قد تقطعت. وخسرنا الحرب العالمية الأولى، وتقاسمت الدول الاستعمارية بلادنا، وارتفعت الجدران العازلة بيننا. وضاعت القدس من بين أيدينا لأن الفرقة كانت هي السائدة".

لا أدري إن كان هناك زعيم واحد في عالمنا الإسلامي اليوم يتحدث عن وحدة الشعوب بهذه اللهجة الواضحة والصريحة، حتى ولو كان كلامه يحمل في طياته بعض الطابع الخطابي.

ومع ذلك، فقد رفضت بعض الجهات في تركيا ما قاله أردوغان وانتقدته بشدة، والسبب الرئيسي وراء هذا الانتقاد هو أنهم قد تلقوا تعليمهم على يد أناس تبنوا القراءة الغربية للتاريخ، فصاروا يرددون أقوالًا مضللة مثل: "العرب قد طعنونا في الظهر، والأكراد يسعون لتقسيم بلادنا".

وأنا على يقين بأنه لو أن زعيمًا عربيًا دعا في يوم من الأيام إلى تحالف وثيق مع الأتراك والأكراد، لوجد من بين أبناء جلدته من يستل من المراجع الغربية نفسها تلك المقولة البائسة: "الأتراك هم من أبقوا العرب متخلفين وسعوا جاهدين إلى صهر هويتهم".

إننا نمتلك قوالب جاهزة وأحكامًا مسبقة، ونعاني من أخطاء فادحة في قراءة التاريخ. وفوق كل هذا، هناك مصالح شخصية ضيقة، وخرائط طريق مشبوهة، ومواقف أنانية لدى بعض الساسة الذين يرفضون أي شكل من أشكال الوحدة بين الشعوب.

إن بدأنا بالإجابة على سؤال: "لماذا لا نستطيع بناء تحالفات قوية؟" من خلال نقد الذات ومراجعة أخطائنا، فسوف نتمكن من حل هذه المعضلة المستعصية. أما إذا بقينا أسرى لفصول التاريخ القديم، نعدد أخطاء الآخرين ونعلي من شأن أنفسنا، فلن نحصد سوى المزيد من الفرقة والشتات. فنقد الذات هو السبيل الوحيد الذي يمكنه أن يجمعنا ويوحد صفوفنا ويخرجنا من هذا التخبط والضياع.

ولكنني أرى اليوم بعين الحسرة أن القومية المتصاعدة قد جعلتنا نحن أتباع النبي الكريم ﷺ نقضي جل أوقاتنا في التنافس المحموم لإثبات تفوق الأبيض على الأسود، والغني على الفقير، والقوي على الضعيف. أما العقلاء وأصحاب الحكمة، فقد آثروا الصمت والتزموا المراقبة من بعيد.

وعندها، يصبح الميدان فسيحًا ومفتوحًا على مصراعيه للمتطرفين المتعصبين، والشعوبيين المغالين، ومن يسيرون على حافة الجنون والتهور.

ينبغي علينا أن نتكلم بصوت عال، وأن ندافع عن الرأي السديد بكل شجاعة وإقدام. يجب أن يصدح المفكرون العرب جهارًا قائلين: "لا فضل لعربي على تركي"، وأن يعلن المفكرون الأتراك بلا تردد: "لا فضل لتركي على كردي"، وأن يكتبوا ويتحدثوا ويكشفوا عن آرائهم النيرة دون خوف أو وجل. عندها فقط، سنشهد قيام تحالفات حقيقية وقوية في منطقتنا، تحالفات تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون البناء والمصالح المشتركة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة